في تمام التاسعة، سمع النغمة التي تطلقها ساعة الحائط، -المفضلة لديه-، وللمرة الأولي انزعج من صوتها، تذكر وهو مغمض العينين، حفيده، الذي سمع منه كثيرا عن حكايات تلك الساعة، كيف كانت تعيده الي طفولته السعيدة، التي عاشها وسط اسرة من أغنياء البلد.
حكي للصغير عن الساعة التي ورثها أبا عن جد، وعن ثمنها حين اشتراها جده الاكبر، انزعج اكثر عندما تذكر ان حفيده رحل دون ان يعرف الحقيقة.
طالما كان يود بعد رحيل الطفل ان يعيد الزمن، ليقص عليه رواية اخري.
"كنت فقيرا، معدما، لم يقترب حلمي يوما من ساعة كتلك، حيث كنا ندرك قوت يومنا بالكاد"، ردد تلك الكلمات بينه وبين نفسه مرارا، كأنما يذكرها بالحقائق التي زيفتها رواياته. وفي بعض الاحيان كان يشعر بأن الصغير يسمعه، ويصدقه، ويغفر له كذبه.
فتح عينيه، للمرة الأولي منذ اشهر طويلة، رأي العالم مختلفا، ليس السرير سريره، ولا المكان يخصه، ولا احد قريب من حوله، وحدها ساعة الحائط، المفضلة لديه، التي يعرفها. حاول ان ينطق، لم يقدر، بصعوبة رفع رأسه من علي الوسادة، والقي نظرة متأنية حوله.
التأني كان عادته دائماً، حتي وان اختلف علي تسميته مع زوجته، التي كانت تفضل ان تطلق عليه بطء، وكثيرا ما عايرته في مواقف مهمة، مستخدمة ذات التعبير، "انت بطئ في كل شئ".
اما هو غير المقتنع برأيها، فكان ينسب كل نجاحاته في الحياة الي ذلك التأني- البطء، فقد كان يري انه اجتهد بتأني في دراسته، فكافأه الله بدخوله كلية عسكرية، -كانت الاعلي والاهم بين الكليات وقتها-، ثم تأني في علاقته بالاخرين فيها، فعرف عنه الحكمة والهدوء والرزانة، وهي الصفات التي أهلته ليكون في موقعا قياديا بالجيش بعد ذلك، وبفضل تأنيه في مواقفه التي اتخذها من القادة، والزعماء، وعدم اتباعه للمتسرعين، ترقي وصعد بسرعة ملفتة، ولانه تأني قبل الظهور بالقرب من الرئيس الذي سبقه، اختطف الموت ذلك الاخير دون ان يمسه بسوء، فتغير قدره تماما.
نظرة واحدة حوله أدرك فيها انه وحيدا، حرك يده اليمني ببطء، فعثر علي زر، وضع خصيصا بجوار يده لاستدعاء المساعدة. فكر قليلا ثم ضغط الزر.
بسرعة انفتح الباب، دخلت تلك الفتاة، قمحية البشرة، ممتلئة الجسد، نوعا ما، متوسطة الطول، ذلك المظهر وتلك الهيئة التي تذكره بالنساء في قريته. في بداية شبابه كان هذا النوع من الفتيات يعجبه، حينما كان الرجال يقدرون جمال المرأة بعدد الكيلوات التي تزنها، لكن هذا الذوق تغير مع أشياء كثيرة تغيرت في شخصيته.
لم يفكر كيف استسلم لها، تقلبه يمينا وشمالا، ربما لانه أدرك وقتها ان جسده اصبح واهنا، ضعيفا، وان يديها القويتين سترغمه علي الخضوع لها، شاء ام أبى.
قلبته، وفحصته، ثم قالت له بحدة ملحوظة، "لماذا ناديتني؟".
تردد برهة قبل ان يجيب، كان يفكر بالطريقة الي يجب ان يتحدث بها، بعنفوان وكبرياء وسطوة وقوة، ام بخضوع ووهن؟، هو لا يدري الان كيف اصبح، بالكاد يري نفسه في مكان واسع، راق لكنه فارغ، الا منه، اين الأهل، والأصدقاء، والحرس، الذين كانوا ملازمين له، ليل نهار؟
دقيقة واحدة، ثم أجابها "اريد ان اعرف اين انا؟"، قالها باستكانة تحمل شيئا من الكبرياء المهزوز، حاول ان يستجمع شتات صوته الذي كان يأمر وينهى به في السابق، لكنه خانه، وخرج متحشرجا، مريضا، مسموعا بالكاد.
ربتت علي كتفه، باستهانة، شعر بها، واجابته وهي تغادر الغرفة "انت في اكبر مستشفي في البلاد". قبل ان يستعيد قدرته علي الكلام، وطريقته الحادة التي اعتاد عليها، قبل ان يطمئن الي انه مازال هو الآمر الناهي، ويعنفها علي طريقتها غير اللائقة، قبل ان يستفسر منها علي ما حدث له، أشارت هي بيدها غير مبالية، وقالت "سأرسل لك من يشرح ويحكي فأنا مشغولة".
دهشته من الطريقة التي حدثته بها، كانت تساوي تقريبا دهشته من كثرة الشعر الابيض الذي ظهر في رأسه، عندما رآه في المرآة الكبيرة المقابلة له، تساءل في حيرة، "كيف تركوا شعري يبدو هكذا؟، وكم لبثت هنا من الوقت ليظهر كل هذا الشيب؟".
كان شكله مختلفا، لم يعتد علي مظهره هكذا أبدا، كانت كل شعرة بيضاء تبدأ في الظهور، تتغلب عليها فرشاة الحلاق التي تصبغها باللون الاسود، قبل ان تشق طريقها في رأسه. لم يتذكر انه رأي إحداها يوما.
دقائق معدودة انتظرها، قبل ان يأتيه احدهم ويقول "بم تأمر يا سيدي؟"، أخذ هو وضعه علي السرير، كرئيس، هندم بيجامته وقال بصوت بدا غليظا مفتعلا، "اين الحرس؟، وأين زوجتي، والأولاد؟، ومن أتي بي الي هنا؟، ومنذ متي؟، اريد الخروج، دعهم يجهزون سيارتي، والتشريفة لا تنسها، يجب ان أعود بقوة"، كان وجه الرجل المسئول، جامدا، صامتا، لا يتحرك، ولا يبد اي تأثر، سلبي او إيجابي، في الواقع لاحظ الرئيس انه غير متعاطف، وان الطريقة التي سأله بها ربما تأتي بنتائج عكسية، فالرجل غير عابئ بمركز الرئيس، او هكذا بدا، سأله الاخير وقد تغيرت نبرته تماماً. بصوت منخفض "اين حفيدي؟".
كانت إجابة الرجل صادمة، فذلك الذي ارتدي حلة كاملة، وربط عنقه برباط أنيق ذي ألوان زاهية، تجاهل كل الأسئلة وقال بطريقة عسكرية "هل تحتاج الي شئ يا سيدي؟".
انفعل الرئيس، صرخ في وجهه، "اريد إجابات، الا تفهم؟!"، سبه بأسوأ الألفاظ، وخاض في عرض والداه، حاول استفزازه، او استنطاقه، "دعهم يجلبون لي .... غيرك ليجيبني"، لكن الرجل ظل صامتا، جامدا، لا يجيب، فقط ينظر اليه بتأمل، وما ان افرغ الرئيس شحنة انفعاله، قال الرجل بأدب ملحوظ "سأكون في خدمتك، حالما تحتاجني"، وانصرف قبل ان يسمع الرد، ربما هرب من مواجهته ثانيا، او ضاق صدره بما سمع.
كانت ساعته المفضلة تشير الي العاشرة الا ربع، حين سمع الرئيس دقات قدم يعرفها جيدا، اعتاد علي صوتها لسنوات، وشعر بألفة يحتاجها، ويشتاق اليها، ظهرت علي وجهه ابتسامة حاول تحجيمها، واعتدل في فراشه، ثم قرر النهوض مسرعا، قدر الإمكان، للجلوس علي الكرسي الوثير الذي يواجه الباب، وانتظر الضيفة المتوقعة.
ربع ساعة تقريبا انتظرها الرئيس، قبل ان تدق ساعته المحبوبة، وتظهر هي، بوجه شاحب، تغطي اغلبه نظارة شمسية سوداء، نظر اليها باندهاش، كأنه لم يعرفها يوما، تفحصها، الملابس ذاتها، لكن الجسد انحف، الشعر وتقاسيم الوجه يشبهان تلك التي عاش معها عمر طويلا، باستثناء غيامات الحزن والاكتئاب، التي لم يرها أبدا تحتل كل تلك المساحات حول عينيها، وفي جبينها.
"صباح الخير"، قالتها ببرود شعر برعشته في جسده، ووضعت قبلة تقليدية باهتة علي خده، كاد ان يسألها بعدها "من انت؟"، جلست علي الكرسي المجاور له، خلعت نظارتها، ثم سألته "متي استرديت وعيك؟". لم يفهم سؤالها، استنكره، سألها بانفعال "ماذا تقصدين بسؤالك؟، ما الذي حدث لي؟، هل فقدت وعيي؟!".
باقتضاب وحزن حكت له ما حدث قبل عام "تمرد الشعب، رفض استمرارك في الحكم، طالبك بالرحيل، حاصرنا من كل جانب"، قاطعها مرتبكا متلجلجا، ببعض كلمات غير مكتملة، ثم بدا عجوزا كهلا لا يقو علي الحركة، امسك رأسه بين يديه وباغتها بسؤال: اين حفيدي؟
قفزت فجأة الي ذهنه صورة حفيده، يجلس علي رجليه، بينما ينظران معا الي ساعة الحائط.
"تحبني اكثر ام الساعة؟" سأله الطفل، "الساعة جزء من تاريخي، وانت كل ما راح وما سيأتي". يومها وعد الجد حفيده بأنه سيرعي بنفسه كل أيامه، سيشرف علي حاضره ومستقبله، وسيمهد له الحياة تحت قدميه.
"اين حفيدي؟، ماذا فعلتم به؟"، صرخ في وجه زوجته مجددا، لكنها لم تندهش، لم تحرك ساكنا، قامت بهدوء، أمسكت بريموت التلفاز، وضغطت علي رقم القناة الذي تحفظه جيدا منذ دخل هو المستشفي.
"كنت تتعامل بهدوء مع الوضع الجديد، استقبلت الامر بأريحية، قبل ان تفقد وعيك، ونفقده معك"، وقبل ان تتحدث عن بطئه المعتاد الذي ادي بهما الي ذاك الحال، وعما فقدته بسبب كبر سنه، وجدته يقول "أتعلم يا حبيبي شيئا عن تلك المرأة؟، جدتك الجميلة المتغطرسة؟"، كان مشهدا اخر يسيطر عليه، حوار لم يدر بينه وبين حفيده، تخيله، او ربما تمناه.
"كانت جدتك من اسرة عريقة لكنها فقيرة، لذا كان همها الاول بعد ان صرت رئيساً، ان تجمع مالا، وان تظهر كالاغنياء، تعجرفت علي الجميع، وانا معهم، استبد بها الغرور حتي مع اقرب الأقرباء، نافقها من حولها، كانوا يمدحون جمالها ورقتها، أمامها، بينما يلعنون أسلافها في الغرف المغلقة.. سمعت احدهم ذات يوم". ضحك ساخرا، بينما صرخت "مجنون.. معتوه.. لقد فقدت صوابك ثانية".
بحثت في هاتفها المحمول عن رقم الطبيب، حدثته بانفعال، وصفت له الحالة ببعض المبالغة، "انه في عالم آخر، يتخيل أشخاص غائبين، يتحدث معهم، ويضحك، يروي أشياء لم تحدث، لقد جن تماماً"، أنهت المكالمة، وحملت حقيبتها بسرعة، واتجهت ناحية الباب كأنها تهرب، نظرت اليه من بعيد وقالت "لن تراني ثانية.. لقد مللت الحياة بسببك". ثم اختفت خلف نظارتها السوداء.
الحقيقة التي كانت تعلمها وتدركها جيدا انها تنتظر ذلك الموقف منذ شهور، تبحث في كل زيارة عن سبب يجعلها الاخيرة، كانت تتمني ان يفيق من غيبوبته ليتحدث، ليعنفها كما كان يفعل في شبابه، ويسخر منها ومن ارستقراطيتها المنفرة، كانت قد ملت الظهور في المستشفى، دون حرس، يسبقونها ويفتحون لها الأبواب، دون كاميرات تلاحقها من كل جانب، او صديقات تقفز من عيونهن نظرات الإعجاب ممتزجة بكثير من الحقد والحسد.
تركته في الغرفة، مع كل الأعباء والضغوط التي تحملتها منذ سكن جدرانها الاربعة، اما هو فقد تجاوز الموقف كأنه لم يحدث، استكمل الحوار مع حفيده قائلا "جنون جدتك وغطرستها كلفاني الكثير منذ اصبحت رئيساً، قاطعت الأهل، والأصحاب، وحتى الأحباب"، صمت فجأة، وابتسم، ثم اغمض عينيه وبدا مستمتعا بشئ يراه ويشعر به وحده.
عطر ناعم يشعره دائماً بالبهجة، راح يملأ به رئتيه، يأخذ شهيقا كبيرا ويحبسه برهة بين ضلوعه، ثم يزفره ببطء، وباستمتاع، ظهرت صاحبته امام عينيه، رآها تبتسم له، تقترب منه فيخلج قلبه وعقله، هي الحبيبة التي كان يحكى عنها لحفيده، هي كل الأحباب الذين قاطعهم بسبب جدته، هي تحديدا قاطعها مرغما للأبد.
التقاها قبل عشرين عاما، في حفل خاص، ولم تستغرق اكثر من ثوان لتستولي على انتباهه. تطور الامر بينهما بسرعة واصبح الزواج مطلبا ملحا لكليهما.
كانت علاقتهما مختلفة، تصغره هي بأكثر من نصف عمره تقريبا، ورغم ذلك يلح هو على الزواج منها، ويرفض ان يقيم معها علاقة عابرة، للمرة الاولى يفكر في الزواج على شريكة عمره، وكانت الاخيرة.
تسربت الاخبار للزوجة المتسلطة، واتخذت إجراءاتها لتختفي الحبيبة نهائيا، عالجت الامر في هدوء، واكتفت بتعليق مقتضب قالته في عجالة بعد الغذاء، "طول عمرك بتحسبها غلط وبتورطنا معاك". لم يفهم حينها الكلام، لكنه شعر بوخزة قوية في صدره ألهته عن الاستفسار.
عاد الحفيد يسأل "ماذا عن الأهل يا جدو؟"، وراح يجيب. ساعة تقريبا قضاها الرجل مع حفيده يحكي له عن ذكريات حقيقية هذه المرة، لم يكذب في كلمة واحدة ولا حتى وصف لموقف او مشاعر، لم يقاطعه سوى ساعة الحائط، بلغت الحادية عشرة، فانطلق صوتها مع صوت من التلفاز يعلن عن موعد نشرة الاخبار.
"طاب مساءكم" قالها المذيع، ثم بدأ يقرأ أحوال البلاد، مظاهرات، حادث قطار، ومظاهرات، ثم سقوط عقار، واعتصامات، مجلس نواب، حالات شغب، بلطجة، ومظاهرات. "اين أنا؟"، سأل حفيده، لكنه لم يره تلك المرة، راح يبحث بعينيه في كل الجوانب، لم يجده، ثم تسمر وجهه امام الشاشة فجأة، صورة حفيده، مبتسما، متأنقا، تملأ التلفاز، "لكنه اكبر من عمر الصورة الان، تلك في الخامسة، وهو الان في السابعة"، بدأت دقات قلبه تسرع، حتى انه وضع كفه على صدره ليمسك به قبل ان يهوى.
كان صوت المذيع مؤلما، حادا، وموجعا، "في ذكرى وفاة حفيد الرئيس السابق، توجهت الاسرة الي مدفنه، ووضعت باقة ورد على قبره".
وفاة، مدفن، قبر، "هل قال تلك الكلمات حقاً؟"، "هل سمعته فعلا؟"، بانفعال هز السماعة المختفية خلف أذنه اليمنى، واتجه نحو الزر المجاور لفراشه، ضغطه عدة مرات متتالية، في عجالة حضرت الممرضة ورجل الامن معا، قابلهما بهستيريا، "ماذا حدث لحفيدي؟، ماذا يقول التلفاز؟، هل رحل؟، لمن تركني؟، كان يدور في الغرفة دونما هدف، حول نفسه تارة، ثم حول الأثاث تارة اخرى، "كيف تخلى عن أحلامي؟، أين أنا؟، أين الحرس؟، ورئيس ديواني؟، أين حبيبتي؟، أرحلت معه؟"، دار ودار ثم سقط، على الكرسي الوثير اسفل الساعة، التي دقت مرة واحدة عند الحادية عشرة والنصف.
تذكر وهو مغمض العينين حفيده، وبصوت واهن خافت قال "كنت فقيرا، معدما، لم يقترب حلمي يوما من ساعة كتلك، حيث كنا ندرك قوت يومنا بالكاد، تلك هي الحقيقة يا حبيبي، سأحكيها لك الآن بغير زيف ولا خداع"، ثم سكت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق